سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} شروعٌ في تحقيق أن الكتابَ الكريم الذي من جُملته ما تلي من الآيتين الكريمتين، الناطقتين بوجوب العبادةِ والتوحيدِ منزلٌ من عند الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن ما ذكر فيهما من الآيات التكوينيةِ الدالةِ على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافِه بما ذكر في مطلَعِ السورةِ الشريفة من النعوتِ الجليّةِ التي من جملتها نزاهتُه عن أن يعتريَه ريبٌ ما، والتعبيرُ عن اعتقادهم في حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يُعرب عنه قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدورُه عنهم وإن كانوا في غاية ما يكونُ من المكابرة والعِناد هو الارتيابُ في شأنه، وأما الجزمُ المذكورُ فخارجٌ من دائرة الاحتمال، كما أن تنكيرَه وتصديرَه بكلمة الشكِّ للإشعار بأن حقَّه أن يكون ضعيفاً مشكوكَ الوقوع، وإما للتنبيه على أن جزمَهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمالِ وضوحِ دلائلِ الإعجازِ ونهايةِ قوتِها.
وإنما لم يقل وإن ارتبتم فيما نزلنا الخ، لما أشير إليه فيما سَلَف من المبالغة في تنزيه ساحةِ التنزيلِ عن شائبة وقوعِ الريب فيه حسْبما نطَق به قولُه تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} والإشعار بأن ذلك إنْ وقع فمن جهتهم لا من جهته العاليةِ، واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا ينافي اعتبارَ ضعفِه وقِلته، لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوامُ ملابستهم به لا قوتُه وكثرتُه، و*مِن* في مما ابتدائيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لريب، وحملُها على السببية ربما يوهمُ كونَه محلاً للريب في الجملة وحاشاه من ذلك، و*ما* موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشتركِ بينه وبين أبعاضِه، وليس معنى كونِهم في ريب منه ارتيابَهم في استقامة معانيه، وصحةِ أحكامِه، بل في نفس كونِه وحياً منزلاً من عند الله عز وجل، وإيثارُ التنزيلِ المنبىءِ عن التدريج على مطلقِ الإنزالِ لتذكيرِ منشأ ارتيابِهم، وبناءُ التحدي عليه إرخاءٌ للعِنان وتوسيعاً للميدان، فإنهم كانوا اتخذوا نزولَه منجّماً وسيلةً إلى إنكاره، فجُعل ذلك من مبادي الاعتراف به، كأنه قيل: إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريجٍ فهاتوا أنتم مثلَ نَوْبةٍ فذةٍ من نُوَبه، ونَجْم فَرْدٍ من نجومه، فإنه أيسرُ عليكم من أن يُنزلَ جُملةً واحدة، ويُتحدَّى بالكل.
وهذا كما ترى غايةُ ما يكون في التبكيت وإزاحةِ العلل، وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضميرِ الجلالة من التشريفِ والتنويه والتنبيهِ على اختصاصه به عز وجل وانقيادِه لأوامره تعالى ما لا يخفى. وقرئ {على عبادنا} والمرادُ هو صلى الله عليه وسلم وأمتُه، أو جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام، ففيه إيذانٌ بأن الارتيابَ فيه ارتيابٌ فيما أنزل على مَنْ قبلَه لكونه مصدِّقاً له ومهيمِناً عليه.
والأمرُ في قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} من باب التعجيز وإلقامِ الحجر، كما في قوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} والفاءُ للجواب، وسببيةُ الارتياب للأمر أو الإتيانِ بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارةٌ عن جزمهم المذكور، فإنه سببٌ للأول مطلقاً، وللثاني على تقدير الصدقِ، كأنه قيل: إن كان الأمرُ كما زعمتم من كونه كلامَ البشر فأتوا بمثله، لأنكم تقدِرون على ما يقدِر عليه سائرُ بني نوعِكم. والسُورة الطائفةَ من القرآن العظيم المترجمة، وأقلها ثلاثُ آيات. وواوُها أصليةٌ منقولةٌ من سُور البلد، لأنها محيطةٌ بطائفةٍ من القرآن مفرَزةٍ مَحُوزةٍ على حِيالها، أو محتويةٍ على فنون رائقةٍ من العلوم احتواءَ سورِ المدينة على ما فيها، أو من السَّوْرة التي هي الرتبة، قال:
ولرهط حرّابٍ وقذّ سَوْرة *** في المجد ليس غرابُها بمُطارِ
فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رُتباً من حيث الفضلُ والشرفُ أو من حيث الطولُ والقِصَر، فهي من حيث انتظامُها مع أخواتها في المصحف مراتبُ يرتقي إليها القارىء شيئاً فشيئاً. وقيل: واوها مُبدلةٌ من الهمزة، فمعناها البقيةُ من الشيء، ولا يخفى ما فيه. ومن في قوله تعالى: {مّن مّثْلِهِ} بيانيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لسورة، والضمير لما نزلنا، أي بسورة كائنةٍ من مثله في علو الرتبة وسموِّ الطبقة، والنظمِ الرائق والبيانِ البديع، وحيازةِ سائرِ نعوتِ الإعجاز، وجعلُها تبعيضيةً يوهم أن له مثلاً محققاً قد أريد تعجيزُهم عن الإتيان ببعضه، كأنه قيل: فأتوا ببعضِ ما هو مثلٌ له فلا يُفهم منه كونُ المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلاً عن كونها مداراً للعجز مع أنه المراد، وبناءُ الأمر على المجاراة معهم بحسب حُسبانِهم حيث كانوا يقولون: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلةَ الريب، فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفِه ولو بغير جِدّ، وقيل: هي زائدة كما هو رأيُ الأخفش، بدليل قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ}، {بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} وقيل: هي ابتدائية، فالضميرُ حينئذ للمُنْزل عليه حتماً، لما أن رجوعَه إلى المنزَلِ يوهم أن له مثلاً محققاً قد ورد الأمرُ التعجيزيُّ بالإتيان بشيء منه، وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعِه إلى المنزل عليه، فإن تحققَ مثلِه عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهوِّن الخطب في الجملة، خلا أن تخصيصَ التحدي بفردٍ يشاركُه عليه السلام فيما ذكرَ من الصفات المنافية للإتيان بالمأمور به لا يدلُّ على عجز مَنْ ليس كذلك من علمائهم، بل ربما يوهم قدرتَهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين، مع أنه يستدعي عراءَ المُنْزَل عما فُصِّل من النعوت الموجبةِ لاستحالة وجود مثلِه، فأين هذا من تحدي أمةٍ جمّةٍ وأمرِهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورَجِلِهم حسبما ينطِق به قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} ويتعاونوا على الإتيان بقدْر يسيرٍ مماثلٍ في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم.
والشهداءُ جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر، ومعنى {دون} أدنى مكانٍ من شيء، يقال: هذا دون ذاك إذا كان أحطَّ منه قليلاً، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتبِ فقيل: زيد دون عمرو، أي في الفضل والرتبة، ثم اتَّسع فاستُعمل في كل تجاوز حدَ إلى حد وتخطِّي حُكم إلى حكم من غير ملاحظةِ انحطاطِ أحدهما عن الآخر، فجرى مَجرى أداةِ الاستثناء، وكلمة {من} إما متعلقةٌ بادعوا فتكونُ لابتداءِ الغاية، والظرفُ مستقرٌّ والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى لاستظهار من حضَركم كائناً من كان، أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضرِكم من رؤسائكم وأشرافِكم الذين تَفْزَعون إليهم في المُلمّات، وتعوِّلون عليهم في المُهِمّات، أو القائمين بشهاداتكم الجاريةِ فيما بينكم من أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوقِ بتنفيذ القولِ عند الولاة، أو القائمين بنُصرتكم حقيقةً أو زعماً من الإنس والجن ليعينوكم.
وإخراجُه سبحانه وتعالى من حُكم الدعاء في الأول مع اندراجه في الحضورِ لتأكيد تناولِه لجميع ما عداه، لا لبيان استبدادِه تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دَعَوْه تعالى لأجابهم إليه وأما في سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمرِ ببراءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدْوة المحادّة والمشاقّة له قاصدين استظهارَهم على ما سواه والالتفاتُ لإدخال الرَّوْعة وتربية المهابة وقيل: المعنى ادعوا من دون أولياءِ الله شهداءَكم الذين هم وجوهُ الناس وفرسانُ المقاولةِ والمناقلةِ ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثلُه، إيذاناً بأنهم يأبَوْن أن يرضَوْا لأنفسهم الشهادةَ بصحة ما هو بيِّنُ الفسادِ وجَليُّ الاستحالة. وفيه أنه يؤذِنُ بعدم شمولِ التحدي لأولئك الرؤساءِ، وقيل: المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا بالله تعالى قائلين: الله يشهد أن ما ندعيه حقٌ، فإن ذلك دَيدَنُ المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدّعون حقِّية ما هم عليه من الدين الباطلِ فلا مِساسَ له بمقام التحدي، وإن أريد مثلية ما أتَوْا به للمتحدى به فمعَ عدمِ ملاءمتِه لابتداء التحدي يوهم أنهم قد تصَدَّوا للمعارضة وأتَوْا بشيءٍ مشتبهِ الحال متردِّدين بين المِثلية وعدمِها، وأنهم ادَّعَوْها مستشهدين في ذلك بالله سبحانه، إذ عند ذلك تمَسُّ الحاجةُ إلى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهي عن الاستشهاد به تعالى، وأنى لهم ذلك، وما نبَضَ لهم عِرقٌ ولا نَبَسوا ببنتِ شَفَةٍ.
وإما متعلقةٌ بـ {شهداءَكم} والمراد بهم الأصنامُ، ودون بمعنى التجاوزِ على أنها ظرفٌ مستقِرٌ وقع حالاً من ضمير المخاطَبين، والعاملُ ما دل عليه {شهداءكم} أي ادعوا أصنامَكم الذين اتخذتموهم آلهةً متجاوزين الله تعالى في اتخاذها كذلك، وكلمةُ {مِن} ابتدائية فإن الاتخاذَ ابتداءٌ من التجاوز، والتعبيرُ عن الأصنام بالشهداء لتعيين مدارِ الاستظهارِ بها بتذكير ما زعَموا من أنها بمكانٍ من الله تعالى وأنها تنفعُهم بشهادتها لهم أنهم على الحق، فإن ما هذا شأنُه يجب أن يكون مَلاذاً لهم في كل أمرٍ مُهم، وملجأً يأوُون إليه في كل خطب مُلم، كأنه قيل: أولئك عُدّتُكم فادعوهم لهذه الداهية التي دَهَمتكم، فوجهُ الالتفاتِ الإيذانُ بكمال سخافةِ عقولِهم حيث آثرَوُا على عبادة من له الألوهيةُ الجامعةُ لجميع صفاتِ الكمال عبادةَ ما لا أحقرَ منه.
وقيل: لفظةُ دون مستعارةٌ من معناها الوضعي الذي هو أدنى مكانٍ من شيء لِقُدّامِه، كما في قول الأعشى:
تُريك القَذى من دونها وهي دونَهُ ***
أي تريك القذى قُدّامها وهي قُدّامَ القذى، فتكون ظرفاً لغوياً معمولاً لشهداءكم لكفاية رائحةِ الفعل فيه، من غير حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون، أي ادعوا شهداءَكم الذين يشهدون لكم بين يدَي الله تعالى ليعينوكم في المعارضة، وإيرادُها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناطِ الاستعانةِ بها، ووجهُ الالتفات تربيةُ المهابة وترشيحُ ذلك المعنى، فإن ما يقوم بهذا الأمر في ذلك المقام الخطيرِ حقُه أن يُستعان به في كل مَرام، وفي أمرِهم على الوجهين بأن يستظهروا في معارضة القرآن الذي أخرسَ كلَّ مِنْطيقٍ بالجماد من التهكم بهم ما لا يوصف، وكلمة من ههنا تبعيضية، لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفَه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بينِ يديه ومن خلفِه لأن الفعل إنما يقع في بعض تَيْنِك الجهتين كما تقول: جئتُه من الليل تريد بعضَ الليل.
وقد يقال كلمةُ {من} الداخلةُ على {دون} في جميع المواقعِ بمعنى في كما في سائر الظروف التي لا تنصرف، وتكون منصوبةً على الظرفية أبداً، ولا تنجرُّ إلا بمن خاصة، وقيل: المرادُ بالشهداء مدارِهُ القومِ ووجوهُ المحافل والمحاضِر، ودون ظرفٌ مستقر ومن ابتدائية أي ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثلُه متجاوزين في ذلك أولياءَ الله، ومحصله شهداء مغايرين لهم إيذاناً بأنهم أيضاً لا يشهدون بذلك، وإنما قُدر المضافُ إلى الله تعالى رعايةً للمقابلة، فإن أولياءَ الله تعالى يقابِلون أولياءَ الأصنام، كما أن ذكرَ الله تعالى يقابل ذكرَ الأصنام، والمقصودُ بهذا الأمر إرخاءُ العِنان والاستدراجُ إلى غاية التبكيت، كأنه قيل: تركنا إلزامَكم بشهداءَ لا ميلَ لهم إلى أحدِ الجانبين كما هو المعتاد، واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم، فإنهم أيضاً لا يشهدون لكم حذراً من اللائمة وأَنَفةً من الشهادة البيِّنة البُطلان.
كيف لا وأمرُ الإعجاز قد بلَغ من الظهورِ إلى حيث لم يبقَ إلى إنكاره سبيلٌ قطعاً، وفيه ما مرَّ من عدم الملاءمةِ لابتداء التحدّي وعدمِ تناولِه لأولئك الشهداء، وإيهامِ أنهم تعرّضوا للمعارضة وأتَوْا بشيء احتاجوا في إثبات مِثْلِيَّتِه للمتحدى به إلى الشهادة، وشتانَ بينهم وبين ذلك {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في زعمِكم أنه من كلامه عليه السلام.
وهو شرطٌ حذفَ جوابُه لدلالة ما سبق عليه، أي إن كنتم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ، واستلزامُ المقدَّم للتالي من حيث إن صدقَهم في ذلك الزَّعم يستدعي قدرتَهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتِهم له عليه السلام في البشرية والعربية، مع ما بهم من طول الممارسة للخُطب والأشعارِ وكثرة المزاولةِ لأساليبِ النظمِ والنثر، والمبالغةِ في حفظ الوقائع والأيام، لا سيما عند المظاهرة والتعاونِ، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيانِ به ودواعي الأمرِ به.


{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غايةَ المجهود، وجاوزتم في الجِد كلَّ حدَ معهود، متشبثين بالذيول، راكبين متنَ كل صَعْب وذَلول، وإنما لم يصرَّح به إيذاناً بعدم الحاجة إليه، بناءً على كمال ظهورِ تهالُكِهم على ذلك، وإنما أُورد في حيز الشرطِ مُطلقُ الفعل وجُعل مصدرُ المأمورِ به مفعولاً له للإيجاز البديعِ المغني عن التطويل والتكرير، مع سِرَ سَرِيَ استَقلَّ به المقامَ وهو الإيذان بأن المقصودَ بالتكليف هو إيقاعُ نفسِ الفعل المأمور به، لإظهار عجزِهم عنه لا لتحصيل المفعول أي المأتي به ضرورةَ استحالته، وأن مناطَ الجوابِ في الشرطية أعني الأمر باتقاءِ النار هو عجزُهم عن إيقاعه لا فوتُ حصولِ المفعول، فإن مدلولَ لفظٍ هو أنفُسُ الأفعال الخاصة لازمةً كانت أو متعديةً من غير اعتبارِ تعلقاتِها بمفعولاتها الخاصة، فإذا عُلِّق بفعل خاصَ متعدَ فإنما يُقصَدُ به إيقاعُ نفس ذلك الفعل وإخراجُه من القوة إلى الفعل، وأما تعلقُه بمفعوله المخصوصِ فهو خارج عن مدلول الفعلِ المطلقِ وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص، ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعالِ المتعديةِ عن مفعولاتها وتنزيلِها منزلةَ الأفعالِ اللازمة، فيقولون مثلاً: معنى فلانٌ يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع، يرشدك إلى هذا قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} بعد قوله تعالى: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} فإنه لما كان مقصودُ يوسفَ عليه السلام بالأمر ومَرْمَى غرضِه بالتكليف منه استحضارَ بنيامين لم يكتفِ في الشرطية الداعية لهم إلى الجِد في الامتثال، والسعْيِ في تحقيق المأمورِ به بالإشارة الإجماليةِ إلى الفعل الذي ورد به الأمر بأن يقول: فإن لم تفعلوا، بل أعاده بعينه متعلقاً بمفعوله تحقيقاً لمطلبه وإعراباً عن مقصِده.
هذا وقد قيل: أُطلق الفعلُ وأريد به الإتيانُ مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرةِ بالضمائر الراجعةِ إليها حذراً من التكرار، أو على طريقة ذكر اللازمِ وإرادةِ الملزوم، لما بينهما من التلازمِ المصححِ للانتقال بمعونة قرائنِ الحال فتدبر، وإيثارُ كلمة *إنْ* المفيدةِ للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلِهم مجاراةٌ معهم بحسَب حُسبانهم قبل التجربة أو التهكمُ بهم.
{وَلَن تَفْعَلُواْ} كلمة لن لنفي المستقبلِ كَلاَ، خلا أن في لن زيادةَ تأكيدٍ وتشديد، وأصلُها عند الخليل *لا أن* وعند الفراء *لا* أُبدلت ألفُها نوناً وعند سيبويه حرفٌ مقتَضَبٌ للمعنى المذكور، وهي إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراضٌ بين جزأي الشرطية مقرِّر لمضمون مُقدَّمِها، ومؤكِّدٌ لإيجاب العمل بتاليها، وهذه معجزة باهرةٌ حيث أُخبر بالغيب الخاصِّ علمُه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيءٍ يُدانيه في الجملة لتناقَلَه الرواةُ خلفاً عن سلف.
{فاتقوا النار} جوابٌ للشرط على أن اتقاءَ النار كنايةٌ عن الاحتراز من العِناد، إذ بذلك يتحقق تسبُّبه عنه وترتُبه عليه، كأنه قيل: فإذا عجَزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقررُ فاحترزوا من إنكار كونِه منزّلاً من عند الله سبحانه فإنه مستوجِبٌ للعقاب بالنار، لكنْ أوثر عليه الكنايةُ المذكورة المبنيةُ على تصوير العنادِ بصورة النارِ، وجُعل الاتصافُ به عينَ الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنِه، وتفظيعِ أمرِه، وإظهارِ كمال العنايةِ بتحذير المخاطبين منه، وتنفيرِهم عنه، وحثِّهم على الجدِّ في تحقيق المكنِي عنه، وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى، حيث كان الأصل، فإن لم تفعلوا فقد صح صِدْقُه عندكم، وإذا صح ذلك كان لزومُكم العنادَ وتركُكم الإيمانَ به سبباً لاستحقاقكم العقابَ بالنار، فاحترزوا منه واتقوا النار {التى وَقُودُهَا الناس والحجارة} صفةٌ للنار مُورثةٌ لها زيادةَ هولٍ وفظاعةٍ أعاذنا الله من ذلك، والوَقودُ ما توقد به النارُ وتُرفع من الحطب.
وقرئ بضم الواو وهو مصدرٌ، وسمِّي به المفعول مبالغةً كما يقال: فلان فخرُ قومِه وزَيْنُ بلدِه، والمعنى أنها من الشدة بحيث لا تمَسُّ شيئاً من رَطْبٍ أو يابس إلا أحرقته، لا كنيران الدنيا تفتقِرُ في الالتهاب إلى وَقودٍ من حطب أو حشيش وإنما جُعل هذا الوصفُ صلةً للموصول مقتضيةً لكون انتسابها إلى ما نسبت هي إليه معلوماً للمخاطَب بناءً على أنهم سمِعوه من أهل الكتاب قبل ذلك، أو الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أو سمِعوا قبل هذه الآية المدنية قولَه تعالى: {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} فأُشير ههنا إلى ما سمعوه أولاً، وكونُ سورةِ التحريم مدنيةً لا يستلزِمُ كونَ جميعِ آياتها كذلك كما هو المشهورُ، وأما أن الصفةَ أيضاً يجبُ أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصوف عند المخاطَبِ فالخطبُ فيه هيِّن، لما أن المخاطَب هناك المؤمنون، وظاهرٌ أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالحجارة الأصنامُ، وبالناس أنفسُهم حسبما ورد في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية.
{أُعِدَّتْ للكافرين} أي هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عِدةً لعذابهم والمرادُ إما جنسُ الكفار والمخاطَبون داخلون فيهم دُخولاً أولياً، وإما هم خاصةً، ووضعُ الكافرين موضعَ ضميرهم لذمهم وتعليلِ الحكم بكفرهم. وقرئ {أُعتِدت} من العَتاد بمعنى العِدة، وفيه دلالة على أن النارَ مخلوقةٌ موجودة الآن، والجملة استئنافٌ لا محل لها من الإعراب مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها، ومؤكدةٌ لإيجاب العمل به، ومبيِّنةٌ لمن أريد بالناس دافعةٌ لاحتمال العموم، وقيل: حال بإضمار قد من النار، لا من ضميرها في وَقودها، لما في ذلك من الفصل بينهما بالخبر، وقيل: صلةٌ بعد صلةٍ أو عطفٌ على الصلة بترك العاطف.


{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} أي بأنه منزلٌ من عند الله عز وجل، وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصودَ عطفُ نفس الأمرِ حتى يُطلبَ له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه، بل على أنه عطفُ قصةِ المؤمنين بالقرآن، ووصفِ ثوابهم، على قصة الكافرين به وكيفيةِ عقابهم، جرياً على السُنة الإلهية من شفْع الترغيب بالترهيب، والوعدِ بالوعيد، وكان تغييرُ السبك لتخييل كمالِ التباين بين حالي الفريقين، وقرئ {وبُشرِّ} على صيغة الفعل مبنياً للمفعول عطفاً على أعِدَّت، فيكونُ استئنافاً، وتعليقُ التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح، لكن لا لذاتهما، فإنهما لا يكافِئان النعمَ السابقة فضلاً من أن يقتضِيا ثواباً فيما يستقبل، بل بجعل الشارعِ، ومقتضى وعدِه وجعل صلتِه فعلاً مفيداً للحدوث بعد إيرادِ الكفارِ بصيغة الفاعل لحثِّ المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان، وتحذيرِهم من الاستمرار على الكفر، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل من يتأتَّى منه التبشير، كما في قوله عليه السلام: «بشر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة» فإنه عليه السلام لم يأمُر بذلك واحداً بعينه بل كلَّ أحد ممن يتأتى منه ذلك، وفيه رمزٌ إلى أن الأمر لعِظَمه وفخامة شأنه حقيقٌ بأن يتولى التبشيرَ به كلُّ من يقدر عليه، والبِشارة الخبرُ السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة، وتباشيرُ الصبح أوائلُ ضوئه {وَعَمِلُواْ الصالحات} الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم، وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ، واللام للجنس، والجمعُ لإفادة أن المرادَ بها جملةٌ من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورةِ الكريمة، وطائفةٌ منها متفاوتةٌ حسبَ تفاوتِ حال المكلفين في مواجب التكليف، وفي عطف العملِ على الإيمان دلالةٌ على تغايرهما وإشعارٌ بأن مدار استحقاقِ البشارةِ مجموعُ الأمرين، فإن الإيمان أساسٌ والعملُ الصالح كالبناء عليه ولا غَناءَ بأساس لا بناءَ به.
{أَنَّ لَهُمْ جنات} منصوبٌ بنزع الخافض وإفضاءِ الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: «الله لأفعلنّ» والجنةُ هي المرة من مصدر جَنَّه إذا ستره، تُطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانِه، قال زهير:
كأنّ عينَيَّ في غَرْبيِّ مقتلة *** من النواضِحِ تسقي جنةً سَحَقا
أي نخلاً طوالاً كأنها لفرطِ تكاثفِها والتفافِها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفسُ السُترة وعلى الأرض ذاتُ الشجر، قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفِردوسُ ما فيه الكَرْم، فحقُ المصدر حينئذ أن يكونَ مأخوذاً من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دارَ الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغُرفات والقصور لما أنها مناطُ نعيمها، ومعظمُ ملاذها، وجمعها مع التنكير لأنها سبعٌ على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما: جنةُ الفردوس، وجنة عدْن، وجنة النعيم، ودارُ الخلد، وجنةُ المأوى، ودارُ السلام، وعِلِّيُّون.
وفي كل واحدة منها مراتبُ ودرجاتٌ متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} في حيز النصب على أنه صفةُ جنات. فإن أريد بها الأشجارُ فجريانُ الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرضُ المشتملة عليها فلا بد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها وإن أريد بها مجموعُ الأرض والأشجار فاعتبارُ التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهِرِ المصحِّح لإطلاق اسم الجنة على الكل.
عن مسروق: أن أنهارَ الجنة تجري في غير أخدود، واللامُ في الأنهار للجنس، كما في قولك: لفلان بستانٌ فيه الماءُ الجاري والتينُ والعنب، أو عِوَضٌ عن المضاف إليه كما في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} أو للعهد، والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وعلا: {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} الآية. والنهَرُ بفتح الهاء وسكونها المجرَى الواسعُ فوق الجَدْول ودون البحر كالنيل والفرات، والتركيبُ للسَّعة، والمرادُ بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوي، أو المجاري أنفسُها، وقد أسند إليها الجريانُ مجازاً عقلياً كما في سال الميزاب.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا} صفة أخرى لجنات، أخِّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصفٌ لها باعتبار ذاتها، وهذا وصفٌ لها باعتبار أهلِها المتنعِّمين بها، أو خبرُ مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة، كأنه حين وُصفت الجناتُ بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامع أثمارها كثمار جناتِ الدنيا أولاً، فبيّن حالُها، و{كلما} نصبٌ على الظرفية، ورزقاً مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقعَ الحال، كأنه قيل: كلَّ وقت رزقوا، مرزوقاً مبتدأ، من الجنات مبتدأً من ثمرة على أن الرزق مقيدٌ بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها مقيدٌ بكونه مبتدأً من ثمرة، فصاحبُ الحال الأولى رزقاً، وصاحبُ الثانية ضميرُه المستكنّ في الحال، ويجوز كونُ {من ثمرة} بياناً قُدّم على المبين كما في قولك: رأيت منك أسداً، وهذا إشارةٌ إلى ما رزقوا، وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيراً إلى نهر جارٍ: هذا الماءُ لا ينقطع، فإنك إنما أشرتَ إلى ما تعايِنهُ بحسب الظاهر لكنك إنما تعني بذلك النوعَ المعلومَ المستمر، فالمعنى هذا مثلُ الذي رزقناه {مِن قَبْلُ}، أي من قبل هذا في الدنيا، ولكن لما استحكم الشبَهُ بينهما جُعل ذاتُه ذاتَه، وإنما جُعل ثمرُ الجنة كثمار الدنيا لتميل النفسُ إليه حين تراه، فإن الطباعَ مائلة إلى المألوف متنفِّرة عن غير المعروف، وليتبين لها مزّيته وكُنهُ النعمة فيه إذ لو كان جنساً غيرَ معهود لظُن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثلُ الذي رُزقناه من قبل في الجنة لأن طعامَها متشابهُ الصور كما يحكى عن الحسن رضي الله عنه أن أحدَهم يؤتى الصَّحْفة فيأكلُ منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثلَ الأولى فيقول ذلك: فيقول الملكُ: كلْ فاللونُ واحدٌ والطعمُ مختلف، أو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«والذي نفسي بيده إن الرجلَ من أهل الجنة ليتناول الثمرةَ ليأكُلَها فما هي واصلةٌ إلى فيه حتى يُبدِّلَ الله تعالى مكانها مثلَها» والأول أنسبُ لمحافظة عمومِ كلما، فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالةَ كلَّ مرة رزقوا لا فيما عدا المرةَ الأولى يُظهرون بذلك التبجحَ، وفرطَ الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذةُ مع اتحادهما في الشكل واللون، كأنهم قالوا: هذا عينُ ما رُزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبةُ من اللذة والطيب.
ولا يقدُح فيه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة في الدنيا إلا الاسمُ، فإن ذلك لبيان كمالِ التفاوتِ بينهما من حيث اللذةُ والحُسنُ والهيئة لا لبيانِ ألا تشابُهَ بينهما أصلاً، كيف لا وإطلاقُ الأسماء منوطٌ بالاتحاد النوعيّ قطعاً، هذا وقد فُسّرت الآيةُ الكريمة بأن مستلذاتِ أهلِ الجنة بمقابلة ما رزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتةُ الحال، فيجوز أن يريدوا هذا ثوابُ الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات، ولا يساعده تخصيصُ ذلك بالثمرات، فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب.
{وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله والضميرُ المجرورُ على الأول راجعٌ إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيْض والدَرن ودنَس الطبع وسوءِ الخلق، فإن التطهرَ يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال، وقرئ {مطهَّراتٌ}، وهما لغتان فصيحتان، يقال: النساءُ فعلت وفعلن وهن فاعلةٌ وفواعل، وقال:
وإذا العذارى بالدُّخان تقنَّعت *** واستعجلت نصبَ القدور فمَلَّتِ
فالجمع على اللفظ، والإفراد على تأويل الجماعة، وقرئ {مطَّهِرة} بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطَّهِرة أبلغُ من طاهرة ومتطهرة، للإشعار بأن مُطَهِّراً طهرهن، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى. وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن، والزوجُ يطلق على الذكر والأنثى، وهو في الأصل اسم لما له قرينٌ من جنسه، وليس في مفهومه اعتبارُ التوالد الذي هو مدارُ بقاءِ النوعِ حتى لا يصِحَّ إطلاقُه على أزواج أهلِ الجنة لخلودهم فيها، واستغنائهم عن الأولاد، كما أن المداريةَ لبقاء الفردِ ليست بمعتبرة في مفهومِ اسمِ الرزق حتى يُخِلَّ ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة.
{وَهُمْ فِيهَا خالدون} أي دائمون، والخلودُ في الأصل الثباتُ المديد دامَ أو لم يدُمْ، ولذلك قيل: للأثافي والأحجارِ الخوالدُ وللجُزءِ الذي يبقى من الإنسان على حاله خالد، ولو كان وضعه للدوام لما قُيِّد بالتأبيد في قوله عز وعلا: {خالدين فِيهَا أَبَداً} ولَما استُعمل حيث لا دوام فيه لكن المرادَ ههنا الدوامُ قطعاً لما يُفضي به من الآيات والسنن، وما قيل من أن الأبدانَ مؤلفةٌ من الأجزاءِ المتضادة في الكيفية معرَّضة للاستحالات المؤديةِ إلى الانحلال والانفكاكِ مدارُه قياسُ ذلك العالمِ الكاملِ بما يشاهَد في عالم الكوْن والفساد، على أنه يجوز أن يُعيدَها الخالق تعالى بحيث لا يعتوِرُها الاستحالة، ولا يعتريها الانحلالُ قطعاً، بأن تُجعلَ أجزاؤها متفاوتةً في الكيفيات متعادلةً في القوى، بحيث لا يقْوَى شيءٌ منها عند التفاعُل على إحالةِ الآخر، متعانقةً متلازمةً لا ينفك بعضُها عن بعض، وتبقى هذه النسبةُ متحفظةً فيما بينها أبداً لا يعتريها التغيرُ بالأكل والشرب والحركات وغيرِ ذلك.
واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكِح حسبما يقضي به الاستقراءُ، وكان مَلاكُ جميع ذلك الدوامَ والثباتَ إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب الألم بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور، اللهم وفقنا لمراضيك، وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقْد والعمل.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11